فتن المنافقين
علي أن هذا النصر الميسر شابه من أعمال المنافقين ما عكر صفوه وأنسي المسلمين حلاوته
فقد وردت واردة من الناس تستقي حول ماء "المريسيع" ومعها الخيل و الإبل وتزاحم الدواب علي الشرب وتدافع أحد المهاجرين وكان أجيرا لعمر بن الخطاب مع أحد الأنصار وكان أجيرا لعبد الله بن أبي ووقع بينهما ما أثار الشر والغيظ فصرخ الأنصاري:"يا معشر الأنصار" ، وصرخ المهاجري:"يا معشر المهاجرين" ، فغضب عبد الله بن أبي رأس المنافقين وعنده رهط من قومه فيهم زيد ابن أرقم غلام حدث فقال أوقد فعلوها ؟ قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا والله ما عدنا و جلاليب قريش إلا كما قيل "سمن كلبك يأكلك" أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم اقبل علي من حضره من قومه فقال لهم:هذا ما فعلتم بأنفسكم حللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم
فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان في جمع من أصحابه منهم عمر بن الخطاب الذي أشار بقتل أبن أبي ولكن الرسول قال له كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه لا ولكن أذن بالرحيل
وأمر الرسول بالرحيل لئلا ينشغل الناس بهذه الفتنة ويجد الشيطان سبيلا إلا قلوبهم وذلك في ساعة لم يكن الرسول يرتحل فيها فارتحل الناس
ومشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيداً قد بلغه ما سمع منه فحلف للرسول كذباً أنه ما قال ولا تكلم فقال من حضر ذلك من الأنصار عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال
وسار الرسول فلقيه أسيد بن حضير فسأل النبي والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها فقال له رسول الله أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال عبد الله بن أبي قال : وما قال ؟ قال الرسول زعم انه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال أسيد : فأنت يا رسول الله والله نخرجه منها إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال:يا رسول الله أرفق به فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه يري انك قد استلبته ملكه
ومشى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس يومهم حتى أمسى ليلتهم حيث اصبح وصدر اليوم التالي حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من عبد الله بن أبي وتابع الرسول سيره حتى عاد إلى المدينة
ولم يكن الرسول يصل إليها حتى نزلت سورة المنافقين وفيها قول الله تعالى:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}-سورة المنافقون الآيات 7-8
فقرأ الرسول علي المؤمنين هذه السورة وفيما فضيحة عبد الله بن أبي وإخوانه من المنافقين وتصديق زيد بن أرقم ـ فظن قوم أن في هذه الآيات القضاء علي ابن أبي وان الرسول لا شك آمر بقتله وبلغ ذلك أبنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من اقوى الناس إسلاماً فذهب إلى رسول الله وقال:يا رسول الله إنه بلغني إنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت لابد فاعلا فمرني به فأنا احمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني وإني اخشي أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا
وقد أدي عفوه عليه السلام عن زعيم المنافقين أن هان أمره وانشق حزبه حتى كان إذا حدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم:كيف تري يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت أقتله لارعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته فقال عمر:قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أعم بركة من أمري
حديث الإفك
كانت عائشة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الغزوة (غزوة بني المصطلق) وفي أثناء عودة المسلمين إلى المدينة حدثت حادثة الإفك التي أذاعها دعاة السوء حول السيدة عائشة رضي الله عنها وعلي رأسهم كبير المنافقين عبد الله بن أبي وذلك حين رأوا صفوان بن المعطل يقود بعير السيدة عائشة رضي الله عنها في المدينة عند عودتها من هذه الغزوة فاتهموها إفكا وبهتاناً وصاروا يذيعون هذا الإفك حتى كادت تحدث فتنة في المدينة وتطرق الحزن والألم على قلب الرسول صلى الله عليه و سلم والمسلمين
وتقص علينا السيدة عائشة نفسها هذه الحادثة فتقول : "كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه : فأيتهن خرج سهمها خرجت معه ، فلما كانت غزوة بني المصطلق خرج سهمي عليهن فارتحلت معه
قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق: لم يهجهن اللحم فيثقلن ، وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي ثم يأتي القوم فيحملوني يأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه علي ظهر البعير ويشدونه بالحبال وبعدئذ ينطلقون
فلما فرغ رسول الله من سفره ذاك توجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات فيه بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل فتهيؤا لذلك وخرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي فلما فرغت أنسل من عنقي ولا ادري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته وجاء القوم الذين كانوا يرحلون لي البعير (وقد كانوا فرغوا من إعداده) فاخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنت اصنع فاحتملوه فشدوه علي البعير ولم يشكوا أنى به ، ثم اخذوا برأس البعير وانطلقوا
ورجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، لقد انطلق الناس... قالت:فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني وعرفت أني لو افتقدت لرجع الناس إلى فوالله إني لمضطجعه إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم يلبث مع الناس فرأي سوادي فاقبل حتى وقف علي وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب فلما رآني قال:"إنا لله وإنا إليه راجعون"ظعينة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ وأنا متلففة في ثيابي ما خلفك يرحمك الله ؟ قالت فما كلمته ثم قرب إلي البعير فقال أركبي وإستأخر عني ، قالت:فركبت وأخذ برأس البعير منطلقاً يطلب الناس فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزلوا فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي البعير فقال أهل الإفك ما قالوا وارتجع العسكر والله ما أعلم بشيء من ذلك
وهكذا كان حديث الإفك الذي تولي كبره عبد الله بن أبي رأس المنافقين ولم يتورع عن قذف المحصنات الغافلات بالباطل هو ومن معه من المنافقين
ولكن الله سبحانه وتعالى لم يلبث أن برأ السيدة عائشة رضي الله عنها مما رميت منه وجعل حصانتها قرأنا يتلى إلى يوم الدين فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}سورة النور, آية 11 ثم قال تعالى:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ}سورة النور، آية 15
و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم الحد علي من ثبتت عليهم تهمة القذف و هم حسان بن ثابت و مسطح بن اثاثة و حمنة بنت جحش
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق علي مسطح بن اثاثة فاقسم أن لا ينفق عليه لموقفه من السيدة عائشة واشتراكه في هذا البهتان فنزل قول الله تعالى:{وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}سورة النور، آية 22 فقال أبو بكر : بلي والله إني لأحب أن يغفر الله لي فأرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفقها عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدًا
واستطاع حسان بن ثابت بعد ذلك أن يعود إلى رضا الرسول وعطفة عليه فقد اعتذر عما نسب إليه في شأن السيدة عائشة ومدحها
غزوة الأحزاب-الخندق
أيقن أعداء الإسلام أنهم لن يستطيعوا الانتصار علي المسلمين إذا حاربتهم كل طائفة مفردة ، وانهم ربما يبلغون أملهم إذا اتحدوا في مواجهتهم
وكان زعماء اليهود في جزيرة العرب ابصر من غيرهم بهذه الحقيقة فأجمعوا أمرهم علي تأليب العرب ضد الإسلام وحشدهم في جيش كثيف ينازل محمداًَ وصحبه في معركة حاسمة وكان هذا منهم امتدادا لسلسلة المؤامرات التي لم يدخر اليهود جهداً إلا وبذلوه في سبيل هدفهم الثابت وهو القضاء علي الإسلام
وخرج نفر من بني النضير ونفر من بني وائل فقدموا علي قريش ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وصار وفد اليهود يزين لقريش الحرب ويهون أمرها وقالوا لهم إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله
فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا بل دينكم خير من دينه وانتم أولي بالحق منه وإلى ذلك يشير القران الكريم في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}سورة النساء، آية 51, فلما قال اليهود ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم خرج أولئك النفر من اليهود قاصدين ديار غطفان وهي قبيلة حربية لها خطرها في صحراء بلاد العرب وتقع علي بعد مائة وعشرين كيلو مترا إلى الشمال الغربي من المدينة فدعوهم إلى حرب الرسول صلى الله عليه و سلم، وطافوا في القبائل الأخرى مثل بني فزارة وبني مرة وبني أسد و أشجع وسليم وعرض عليهم مشروع غزو المدينة وموافقة قريش عليه فأجابوهم إلى ذلك ، وبذلك نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر علي الإسلام والمسلمين وبلغ مجموع الأحزاب عشرة آلاف مقاتل و أسندت القيادة إلى أبي سفيان بن حرب وبدأ التأهب للزحف علي المدينة. وقد اختلف في تاريخها وجمهور المؤرخين وأهل السير أنها كانت في شوال سنة خمس ولما سمع الرسول بزحفهم إلى المدينة استشار النبي أصحابه فيما ينصع
واستقر الرأي علي البقاء بالمدينة و التحصن بها لان الالتحام مع هذه الجيوش الضخمة في ساحة مكشوفة غير مأمون العاقبة و كان جيش المسلمين لا يزيد علي ثلاثة آلاف مقاتل
حفر الخندق
وقد أشار سليمان الفارسي بضرب الخندق علي المدينة وكانت خطة حربية متبعة عند الفرس وقبل رسول الله رأيه فأمر بحفر الخندق في السهل الواقع شمال غرب المدينة وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدو ، وذكر أن المهاجرين يوم الخندق قالوا سلمان منا وقالت الأنصار سلمان منا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم سلمان منا أهل البيت
وقسم رسول الله صلى الله عليه و سلم الخندق بين أصحابه لكل عشرة منهم أربعين ذراعاً
وعمل رسول الله في حفر الخندق ترغيبا للمسلمين في الأجر وعمل معه المسلمون فيه وإبطا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعف من العمل ويتسللون إلى أهاليهم بغير علم رسول الله و لا إذنه، وفيهم نزل قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ} إلى قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}-سورة النور، آية 62
وكان البرد شديداً ولا يجدون من القوت إلا ما يسد الرمق وقد لا يجدونه يقول أبو طلحة شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بطنه حجرين، وكان المسلمون مسرورين يحمدون الله ويرتجزون ولا يشكون
يقول أنس رضي الله عنه خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال
فأغفر للأنصار والمهاجرة اللهم إن العيش عيش الآخرة
فقالوا مجيبين له
علي الجهاد ما بقينا أبداً نحن الذين بايعوا محمدا
وعرض للمسلمين في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآها أخذ المعول وقال بسم الله وضرب ضربه فكسر ثلثها وقال الله اكبر أعطيت مفاتيح الشام فقطع ثلثاً آخر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأ بصر قصر المدائن الأبيض ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله أني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة
وظهرت المعجزات علي يد الرسول فإذا اشتدت علي المسلمين في بعض الخندق كدية دعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ونضح ذلك الماء علي تلك الكدية فانهالت وعادت كالكثيب لا تر فأسا ولا مسحاه
وظهرت البركة في طعام قليل فشبع به عدد كبير وكفى الجيش كله قال أبن إسحاق : أن أبنة بشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي ثم قالت أي بنية أذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغذائهما
قالت : فأخذتها فأنطقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا التمس أبي وخالى
فقال : تعالي يا بنية ما هذا الذي معك؟
قالت : يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغذيانه
قال : هاتيه
قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه و سلم فما ملأنها ثم أمر بثوب فبسط له ثم دعا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لواحد من الصحابة أصرخ في أهل الخندق:أن هلم إلى الغذاء ، فأجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب
وتم حفر الخندق في ستة أيام علي رأي ابن سعد وقيل قريبا من عشرين ليلة وعند الواقدي أربعا وعشرين وقيل غير ذلك
وأقبل جيش الأحزاب حتى نزل أمام المدينة في عشرة آلاف ، وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون في ثلاثة آلاف وبينهم وبين القوم الخندق وأمر الرسول صلى الله عليه و سلم بالذراري والنساء فجعلوا في الاطام( الحصون) البعيدة ليكونوا بمأمن إذا ركب العدو رأسه واستباح المدينة واسند المسلمون ظهورهم إلى جبل سلع ورابطوا علي جانب الخندق
ولما انسابت الأحزاب حول المدينة في أعدادها الهائلة وضيقوا عليها الخناق لم يتسرب الخوف إلى قلوب المؤمنين بل واجهوا هذا الجيش الجرار بعقيدة المؤمن وثقة المطمئن بتأييد الله{وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}سورة الأحزاب، آية 22
أما الواهنون والمرتابون ومرضى القلوب فقد تندروا بأحاديث الفتح وظنوها أماني المغرورين وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسري وانتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا ؟وفيهم قال الله تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}سورة الأحزاب، آية 12
ورأت جموع المشركين الخندق فاعترتهم الدهشة وداخلهم الاضطراب لعدم معرفتهم بوسائل القتال أمام الخنادق ولم يكونوا يتوقعون هذا النوع من الدفاع المجهول لديهم وبلغ منهم الغيظ أن زعموا أن الاحتماء وراء الخندق جبن لا عهد للعرب به وقالوا:إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها
وظل المشركون يدورون حول المدينة وهم في غضب شديد يتحسسون نقطة ضعيفة لينحدروا منها عسي أن ينالوا من المسلمين شيئا وعرف المسلمون ما يتربص بهم وراء هذا الحصار فقرروا أن يرابطوا في مكانهم ينصحون بالنبل كل مقترب
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق علي هذا النحو فتيمموا مكانا ضيقا من الخندق وضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم في ارض المدينة ومنهم الفارس المشهور عمرو بن عبدود الذي كان يقوم بألف فارس وكان قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراح فلم يشهد يوم أحد
فلما كان يوم الخندق خرج واضعاً علامة يعرف بها فلما وقف قال من يبارز؟ فبرز علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال:يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه قال : أجل قال علي : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام قال : لا حاجة لي بذلك قال : فإني أدعوك إلى النزال
فقال له : لم يا ابن أخي ؟ فوالله ما أحب أن أقتلك
قال له علي ـ لكني والله احب أن أقتلك
فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم اقبل علي (رضي الله عنه) فتنازلا وتجاولا فقتله علي رضي الله عنه
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم _ يوم الخندق حم لا ينصرون
مؤامرة يهود بني قريظة
في هذه الآونة العصيبة جاءت الأخبار أن يهود بني قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم _ وانضموا إلى كتائب الأحزاب التي تحدق بالمدينة وكان بين المسلمين وبين يهود بني قريظة عقد وعهد فحملهم حي بن اخطب سيد يهود بني النضير واحد النفر الذين حرضوا قريشا وسائر العرب علي حرب الإسلام علي نقض العهد وقد فعل ذلك كعب بن أسد سيد قريظة بعد امتناع وتردد وتحقق رسول الله صلى الله عليه و سلم من هذه المؤامرة بعد أن بعث سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة ليستوضحوا الخبر فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم علي اخبث ما بلغهم عنهم
وقالوا من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عند ، واقبل الوفد علي رسول الله واخبروه بغدر اليهود فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين
وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف ، ويصور هذا القران الكريم في قول الله تعالى:{إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا}سورة الأحزاب، الآيات 10-11وزاد من خطورة الموقف خوف الرسول من أن يغتنم هذه الفرصة زعيم المنافقين عبد الله بن أبي ذلك المنافق الذي انسحب يوم أحد بثلث الناس من صفوف المسلمين لاسيما وقد ظهرت بوادر النفاق من بعضهم حتى لقد قال أحدهم "كان محمد يعدنا كنوز كسري وقيصر و أحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلى الغائط
لكل هذا هم رسول الله صلى الله عليه و سلم بعقد الصلح بينه وبين غطفان علي أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة وقد عدل الرسول عن ذلك بعد استشارة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة نقالا له يا رسول الله أمرا نحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال بل شئ اصنعه لكم والله ما اصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم (غالبوكم) من كل جانب فأردت أن اكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما فقال له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن و هؤلاء علي الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون منه ثمرة الاقرى أو بما افحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له و أعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله مالنا بهذا حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنت وذاك
وفي وسط هذه الشدائد المتتالية و الأزمات المتلاحقة والمصاعب المتتابعة برز أصحاب الإيمان الراسخ والعقدية الثابتة يغالبون نزعات الجبن والتردد التي بدت هنا وهناك ويسرعون إلى الفداء والتضحية غير هيابين ولا وجلين
روي ابن إسحاق أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ـ وكانت مع نسوة مسلمات في حصن بني حارثة ومر سعد بن معاذ وعليه درع قصيرة قد خرجت منها ذراعه كلها وهو يرتجز
لا بأس بالموت إذا حان الأجل لبث قليلا يشهد الهيجا جمل
فقالت له أمه الحق أبني فقد والله أخرت قالت عائشة ، فقلت لها يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت اسبغ مما هي قالت وخفت عليه
وكان ما تخوفته عائشة ـ رضي الله عنها ـ فرمي سعد بن معاذ بسهم قطع منه الأكحل ( عرق في الذراع ) فقال سعد اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقي لها فإنها لا قوم أحب إلى أن أجهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه و أخرجوه اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فأجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة
ودعوة سعد هذه تصور مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ وحنق لخيانة اليهود وانضمامهم إلى الأحزاب في هذا الوقت العصيب
ومر يهودي من بني قريظة بالحصن الذي فيه صفية بنت عبد المطلب فجعل يطيف فيه فنزلت صفية من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته وأحاط المشركون بالمسلمين فحاصروهم قريبا من شهر واشتد البلاء
و استأذن بعض الناس رسول الله صلى الله عليه و سلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} سورة الأحزاب، آية 13
وجاء المسلمون إلى رسول الله يسألون هل من شئ يقولوه فقد بلغت القلوب الخناجر؟ قال : نعم قولوا اللهم استر عوراتنا و آمن روعاتنا
ودعا رسول الله علي الأحزاب فقال : اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم
موقف نعيم بن مسعود الغطفاني
وبينما رسول الله و أصحابه في هذه الشدة العظمي اخذ سير المعركة يتطور علي نحو لا يدرك الناس كنهه { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } وتدخلت عناية الله لتضع حداً لمعاناة المسلمين ولتقمع جحافل الشرك والكفر والخيانة
فقد جاء نعيم بن مسعود الغطفاني رسول الله فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم وتكلم معهم بكلام جعلهم يشكون في صحة موقفهم وتأييدهم لقريش وغطفان الذين ليسوا من أهل البلد وعدائهم للمهاجرين والأنصار الذين هم أهل الدار وجيرانهم الدائمين لهم و أشار عليهم ألا يشتركوا مع الأحزاب في حرب ضد محمد حتى يأخذوا من الأحزاب رهناً من أشرافهم يبقونه في أيديهم خشية أن تنسحب الأحزاب ويتركوهم وحدهم فقالوا له لقد أشرت بالرأي
ثم خرج حتى أتي قريشاً وأظهر لهم وده ونصحه واخبرهم بأن اليهود قد ندموا علي ما كان منهم من نقض عهد محمد وأنهم سيطلبون من قريش رجالا من أشرافهم يدفعونها إليه ليقتلهم
ثم خرج إلى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش ـ واختفي نعيم من الميدان ليرقب ثمار هذه الوقيعة . فكان كل فريق منهم علي حذر من الآخر وتوغرت صدورهم وشك كل واحد في الآخر ، وندبت الفرقة وتوجس كل منهم خيفة من صاحبه
وفي ليلة السبت من شوال سنة خمس قرر أبو سفيان القيام بهجومه الكبير فأرسل الى بني قريظة ليستعدوا معه للقتال فجاءهم الجواب متخاذلا بأنهم لا يستطيعون قتالا يوم السبت ثم طلبوا منهم رهنا من رجالهم فتحقق لقريش وغطفان صدق ما حدثهم به نعيم بن مسعود وامتنعوا عن تحقيق مطالبهم كما تحقق لليهود صدق حديثه كذلك. وهكذا تفرق الشمل وتفتت الوحدة ودب الخلاف وتوقف الهجوم
وبينما هم علي هذه الحال من الحسرة واليأس إذ بعث الله علي الأحزاب الريح في ليلة شاتيه شديدة البرد فجعلت تقلب قدورهم وتطرح أبنيتهم
و رأي المشركون أن المقام علي هذه الحالة متعذر فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف و اختلفنا وبنوا قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدور ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل ثم قام أبو سفيان إلى جمله و هو معقول فجاس عليه ثم مضي به فما أطلق عقاله ألا و هو قائم ورحل جميع الأحزاب{وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}سورة الأحزاب، آية 25
ووضعت الحرب أوارها فلم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:لن يغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم
وجعل رسول الله يهتف قائلا " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده وهزم الأحزاب وحده، وصدق الله العظيم {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} سورة الأحزاب، آية 9
هذا وقد استشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة علي اكثر تقدير وقتل من المشركين ثلاثة
غزوة بني قريظة
لما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة ووضعوا السلاح أتي جبريل و قال :أو قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فقال جبريل : فما وضعت الملائكة السلاح بعد إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بي قريظة
فأمر رسول الله مؤذنا فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة
ولما رأي اليهود جيش المسلمين أسرعوا بإغلاق حصونهم وحاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة علي رأي ابن إسحاق
فلما أيقنوا بأن رسول الله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد لهم : يا معشر اليهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وأني عارض عليكم خلالا ثلاثة فخذوا أيهما شئتم قالوا:وما هي ؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فواله لقد تبين لكم إنه لنبي مرسل وإنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون علي دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة ابدأ ولا نستبدل به غيره
قال : فإذا أبيتم علي هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجلا مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك تهلك ، ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وأن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم ؟ قال فإن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسي أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب من محمد و أصحابه غرة قالوا : تفسد سبتنا علينا وتحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال :ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً
ولما اشتد عليهم الحصار أرسلوا إلى النبي أن يبعث لهم أبا لبابة ـ وهو من حلفائهم الأوس ليستشيروه في أمرهم فأرسله النبي إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والأطفال يبكون في وجهه فرق لهم أبو لبابة وقالوا له يا أبا لبابة أترى أن ننزل علي حكم محمد ؟ قال نعم و أشار بيده إلى حلقة إنه الذبح
ثم أدرك لفوره أنه خان رسول الله فمضي هائما علي وجهه ولم يأت رسول الله بل ربط نفسه في مسجد المدينة إلى عمود من عمدة وقال لا ابرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت ، وعاهد الله ألا يطأ بني قريظة أبدا ولا يري في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا
ونزلت توبة أبي لبابة علي رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ست ليال كانت امرأته تأتيه في كل وقت صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط بالجذع وفي توبته قال الله تعالى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}سورة التوبة - آية 102
ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا وقذف الله في قلوبهم الرعب فنزلوا علي حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فتواثبت الأوس وقالوا يا رسول الله أنهم موإلينا دون الخزرج وقد فعلت في موالى إخواننا ( يعنون يهود بني قينقاع ) بالأمس ما قد علمت فقال لهم الرسول صلى الله عليه و سلم : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟
قالوا : بلي
قال رسول الله فذاك إلى سعد بن معاذ فأرسل الرسول إلى سعد بن معاذ وهو في خيمة رفيدة يتداوى فلما جئ به قال له بنو قبيلته : يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم
فلما اكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومه لائم ثم قال سعد فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال، وتقسم الزراري والنساء
فقال الرسول صلى الله عليه و سلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة ارقعة -أي سماوات
وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وكان عددهم ما بين ستمائة إلى سبعمائة والمكثر لهم بقول كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة ثم قسمت أموال بني قريظة و نساؤهم و أبناؤهم علي المسلمين
ويلاحظ أن هذا الحكم الذي حكم به سعد هو ما توصي به التوراة في معاملة الخصوم وفي طرد الأحزاب ودحر بني قريظة نزلت الآيات :{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً {25} وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً {26} وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} سورة الأحزاب الآيات 25 – 27
نتائج غزوة الأحزاب
انتهت معركة الأحزاب وقد حقق المسلمون انتصارين عظيمين كان لهما اكبر الأثر في مستقبل الإسلام
أما الأول: فهو انهزام قريش بحلفائها مما حطم كبرياءها وقضي علي كل أمل يداعبها في غزو المدينة بعد ذلك
وأما الانتصار الثاني: فهو القضاء علي يهود بني قريظة وبذلك تم تأمين الجبهة الداخلية والقضاء علي اليهود بها
وقد استقبل المسلمون السنة السادسة للهجرة وهم علي أحسن حال من العزة والقوة وقد شجعهم هذا على أن يقوموا بعدة غزوات وسرايا في هذه السنة لتأديب القبائل التي ارتكبت جرائم في حق المسلمين ولإظهار قوة المسلمين وسلطانهم ولمنع التجمعات ضد المسلمين
وبهذا انتقل للمسلمين زمام المبادأة و أمسوا مرهوبي الجانب يحسب لهم العدو ألف حساب قبل أن يفكر في الاعتداء عليهم ولا أري ما يدعو لتفصيل هذه الغزوات و السرايا التي قام بها المسلمون لتشابه بعضها ببعض في التفاصيل ولأن الطابع العام الذي يجمعها يكاد يكون واحداً . ولذلك سنتحدث الآن عن حدث من أهم أحداث السنة السادسة للهجرة وهو صلح الحديبية
صلح الحديبية
كانت قريش قد آلت على نفسها منذ هاجر الرسول والمسلمون معه إلى المدينة أن يصدوهم عن المسجد الحرام وأن يحولوا بينهم وبين سائر العرب وقد كاد العام السادس الهجري أن ينتهي ولم يرى المهاجرون فيها مكة
وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رأى في المنام أنه وأصحابه سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون وذلك في غير تحديد للزمان وتعيين للشهر والعام
فأخبر الرسول أصحابه بذلك وهو بالمدينة فاستبشروا به وزاد شوقهم لزيارة البيت واعتقدوا أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، وفضل النبي الذهاب في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم حتى لا تتوجس قريش وتصده عن مكة
وخرج الرسول من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة معتمراً لا يريد حرباً إلى الحديبية وكان عدد المسلمين ألفا و أربعمائة علي ارجح الروايات خرجوا في ثياب الإحرام البيض وساقوا معهم الهدي وأحرموا بالعمرة ليعلم الناس انه خرج زائر للبيت معظماً له و حتى لا تفكر قريش في صده عن مكة وكانوا عزلا من السلاح إلا ما يحمله كل مسافر وهو سيف في قرابة. وركب الرسول ناقته القصواء و أصحابه من خلفه
فلما بلغوا ذي الحليفة ميقات أهل المدينة قلد الرسول الهدي بأن علق في عنقه شيئا وهو نعل ليعلم انه هدي و أشعره أي لطخه بالدم وأحرم الجميع ودوى صوتهم بالتلبية إعلانا عن عمرتهم. وكان ذلك حقا لهم فإن زيارة البيت من حق العرب جميعاً وليس لقريش بحكم العرف العام أن تصد أحدا حتى ولو كان عدوا متى رعت حرمه البيت
لكن قريشا بمجرد علمها أن المسلمين يقصدون مكة أخذت في الاستعداد للحرب ولم يصدقوا أن هدف الرسول الحج وعقدوا النية علي صد النبي عن مكة مهما كلفهم الأمر وهكذا كان هذا الموقف من قريش دليلا علي عنادها وصلفها وتماديها في الاعتداء على المسلمين ومصادرة حرياتهم و انتهاك حقوقهم
ومضي ركب الرسول في طريق مكة حتى بلغ عسفان (علي بعد يومين من مكة) ، وهناك لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام و آخرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة-اي صفحة العنق
وبلغ الرسول أن خالد بن الوليد خرج في خيل لقريش بلغت مائتا فارس طليعة لجيش قريش. ولكي يتجنب الرسول الاصطدام بقريش ومضياً مع الرغبة عن القتال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فسلك بها رجل من أسلم طريقا وعراً غير الطريق المعهود حتى وصل إلى الحديبية علي طرف حدود أراضي مكة، وهناك بركت ناقته فقال الناس خلأت الناقة فقال النبي : ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم ألا أعطيتهم إياها
ثم قال للناس انزلوا فقيل له يا رسول الله ما بالطريق ماء ننزل عليه فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب فغرزه في جوفه فجاش بالرواء فمازال بجيش لهم بالري حتى صدروا عنه أي رجعوا رواء بعد ورودهم وعلم الجيش القرشي بنزول النبي بالحديبية فأسرع إلى مكة لحمايتها وليحولوا بين المسلمين وبين دخولها وعسكرت قريش بقواتها علي جميع مداخلها
السفارات بين الطرفين
ولما كانت قريش تعرف حرج موقفها إن نشب قتال جديد فحجتها فيه أمام نفسها وأمام أحلافها داحضة وقد ينتهي القتال بكارثة تؤدي بكيانهما كله ولهذا سيرت الوسطاء يفاوضون محمداً علهم ينتهون معه إلى مخرج من هذه الورطة
وكان أول من جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة فكلموه وسألوه عن سبب مجيئه فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا و إنما جاء زائر للبيت ومعظما لحرمته ومن ثم اقتنعوا بأحقيته في زيارة البيت وتعظيمه فرجعوا إلى قريش فقالوا يا معشر قريش إنكم تعجلون علي محمد إن محمداً لم يأت لقتال وإنما جاء زائراً هذا البيت ، ولكن قريشا ركبت رأسها وقالوا وإن كان جاء لا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تتحدث ذلك عنا العرب
ثم تكررت الوفود بينهما فبعثت قريش رسولا أخر هو مكرز بن حفص فعاد بما عاد به بديل الخزاعي
وبعثوا للرسول أيضا الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه الرسول قال إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهة حتى يراه ، فلما رأي الهدي يسيل عليه من عرض الوادي (جانبه) رجع إلى قريش دون أن يصل إلى الرسول إعظاما لما رأي فقال لهم ذلك فقالوا له : أجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك
فغضب الحليس عند ذلك وقال : يا معشر قريش والله ما علي هذا خلفناكم ولا علي هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاء معظما له والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أولا لانفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد فقالوا له : مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به
ثم بعثوا إلى رسول الله رسولا رابعاً هو عروة بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فكلمه الرسول بنحو مما كلم به أصحابه واخبره انه لم يأت يريد حرباً وإنما يريد أن يزور البيت كما يزوره غيره فلا يلقي صاداً ولا راداً
فقام من عند الرسول وقد رأي ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ ألا ابتدروا وضوءه ولا يبصق بصاقا ألا ابتدروه ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه
فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش إني قد جئت كسري في ملكة وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشئ أبداً فروا رأيكم
وطالت المحادثات علي نحو ما قدمنا فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبعث هو إلى قريش رسولا من عنده يوضح موقفه تمشيا مع حرص الرسول علي السلم وتأكيدا لحلمه الذي بلغ غايته ودعا رسول الله صلى الله عليه و سلم خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله علي بعير له ليبلغ أشراف مكة ما أمره به الرسول فعقروا به جمل الرسول و أرادوا قتله فمنعته الاحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وتمادت قريش في عنادها وأرسلت أربعين رجلا منهم أو خمسين رجلا وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً فأمك المسلمون بهم جميعاً وأتي بهم إلى رسول الله فعفا عنهم وخلى سبيلهم وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله بالحجارة والنبل
وفي فظاظة قريش وسماحة المسلمين وحلم الرسول نزل قوله عن وجل{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}سورة الفتح ـ آية 26
وكره الرسول أن تجري الأمور علي هذا النحو وأن يتصاعد الموقف نحو القتال فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال : يا رسول الله إني اخلف قريشاً علي نفسي وليس بمكة من عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عدواني إياها و غلظتي عليها ولكن أدلك علي رجل اعز بها مني عثمان بن عفان
فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائرا لبيت معظماً لحرمته ودخل عثمان مكة في جوار أبان بن سعيد بن العاص الأموي فأنطلق عثمان حتى أتي أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال عثمان حين رجع وقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت بئس ما ظننتم بي والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ورسول الله صلى الله عليه و سلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت
بيعة الرضوان
وتعثرت المفاوضات بين عثمان وقريش و احتسبت قريش عندها عثمان وراجت إشاعة بأنه قتل فقال الرسول حين بلغه ذلك : لا تبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فضرب بإحدى يديه علي الأخرى فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وفيها بايع الرسول أصحابه علي أن لا يبرحوا مكانهم حتى يقاتلوا المشركين دون أن يفروا إذا ما أصاب عثمان مكروه
وهذه البيعة هي التي نزل فيها قوله تعالى : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}سورة الفتح ـ آية 18
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل ، وسارعت قريش فبعثت سهيل بن عمرو ليعقد محمد صلحا ولم يكن يعنيها في هذا الصلح إلا أن يرجع المسلمون هذا العام علي أن يعودا بعد إذا شاءوا وذلك إبقاء علي مكانة قريش في العرب فلما رأي الرسول مبعوث قريش قال قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل وتقدم سهيل بن عمرو إلى النبي فتكلما وتناقشا وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح
ووسط دهشة الصحابة قبل الرسول شروط الصلح ولم يستشرهم في هذه الشروط أثناء المفاوضات علي غير عادته ولم يرق هذا الاتفاق في أعين جمهور الصحابة واعتقدوا أن الرسول سلم لقريش بكل مطالبهم وكان أشدهم نقدا له عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ذهب إلى أبي بكر فقال يا أبا بكر أليس برسول الله ؟
قال : بلى
فقال : أو لسنا بالمسلمين ؟
قال : بلى
قال : أو ليسوا بالمشركين ؟
قال : بلى
قال عمر : فعلام نعطي الدنيه في ديننا
قال أبو بكر : يا عمر الزم غرزه (الزم أمره) فإني اشهد أنه رسول الله
قال عمر : و آنا اشهد انه رسول الله
ثم أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله الست برسول الله ؟
قال : بلى
قال : أو لسنا بالمسلمين ؟
قال : بلى
قال : أو ليسوا بالمشركين ؟
قال : بلى
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟
قال : أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني
فالموقف إذن ليس موقف شورى أو مناقشة بل كان كما ذكر الرسول صلى الله عليه و سلم أمر الله وتوجيه الوحي فتصرف الرسول عليه السلام على ضوء هذا الإلهام الإلهي ولكن الرسول كان يري ما لا يراه الصحابة. ثم إن الرسول وجد في هذه الشروط التي تم التوصل إليها الخير والبركة للإسلام والمسلمين كما سنناقش هذه الشروط بعد قليل
شروط صلح الحديبية
ودعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليكتب شروط الصلح
فقال : أكتب بسم الله الرحمن الرحيم
فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم
فقال رسول الله : اكتب باسمك اللهم فكتبها
ثم قال : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو
فاعترض سهيل وقال : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب أسمك و أسم أبيك
فقال رسول الله : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو
اصطلحا علي وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض ـ على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وإنه لا إسلال ولا إغلال
عيبة مكفوفة : اي صدور منطوية على ما فيها
إسلال : أي السرقة الخفية
إغلال : أي الخبانة
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها
تاااااااااااااااااااااااااااااابع الجزء الثامن